الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (36): قوله تعالى: {وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} يريد الرؤساء منهم، أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا. {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أي من عذاب الله، فالحق هو الله. وقيل {الحق} هنا اليقين، أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد. .تفسير الآية رقم (37): قوله تعالى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ} {أَنْ} مع {يُفْتَرى} مصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء، كما تقول: فلان يحب أن يركب، أي يحب الركوب، قاله الكسائي. وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، كقوله: {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]. وقيل: {أَنْ} بمعنى اللام، تقديره: وما كان هذا القرآن ليفترى. وقيل: بمعنى لا، أي لا يفترى. وقيل: المعنى ما كان يتهيأ لاحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه، لوصفه ومعانيه وتأليفه. {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال الكسائي والفراء ومحمد ابن سعدان: التقدير ولكن كان تصديق، ويجوز عندهم الرفع بمعنى: ولكن هو تصديق. {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فإنها قد بشرت به فجاء مصدقا لها في تلك البشارة، وفي الدعاء إلى التوحيد والايمان بالقيامة. وقيل: المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن. {وَتَفْصِيلَ} بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق. والتفصيل التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة. والكتاب اسم الجنس. وقيل: أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام. {لا رَيْبَ فِيهِ} الهاء عائدة للقرآن، أي لا شك فيه أي في نزوله من قبل الله تعالى. .تفسير الآية رقم (38): قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} أم هاهنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها. وقيل: هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة، كقوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} [السجدة: 3- 2- 1] أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو، مجازه: ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير: أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع. {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله، لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدمة الكتاب، والحمد لله. .تفسير الآية رقم (39): قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال، فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب، قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن من جهل شيئا عاداه قال نعم، في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]. {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يريد الأمم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي أخذهم بالهلاك والعذاب. .تفسير الآية رقم (40): قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه، لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعادة. و{مَنْ} رفع بالابتداء والخبر في المجرور. وكذا. {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت، كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل: المراد أهل الكتاب. وقيل: هو عام في جميع الكفار، وهو الصحيح. وقيل. إن الضمير في {بِهِ} يرجع إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لان منهم من سيؤمن. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي من يصر على كفره، وهذا تهديد لهم. .تفسير الآية رقم (41): قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} رفع بالابتداء، والمعنى: لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى. {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي جزاؤه من الشرك. {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} مثله، أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. وهذه الآية منسوخة بآية السيف، في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد. .تفسير الآيات (42- 43): قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} يريد بظواهرهم، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن، ولهذا قال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ} أي لا تسمع، فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى. وكذا المعنى في: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ} أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته. وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم، كما تقدم في غير موضع. وقال: {يَسْتَمِعُونَ} على معنى {مَنْ} و{يَنْظُرُ} على اللفظ، والمراد تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للايمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا. ومعنى: {يَنْظُرُ إِلَيْكَ} أي يديم النظر إليك، كما قال: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]. قيل: إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم. .تفسير الآية رقم (44): لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه، لأنه مصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل. {وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي {ولكن} مخففا {الناس} رفعا. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت {ولكن} بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاءوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لأنها {إن} زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد، وأنشد: ولكنني من حبها لعميد فجاء باللام لأنها {إن}. .تفسير الآية رقم (45): قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} بمعنى كأنهم خففت، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم. {إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ} أي قدر ساعة: يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث، دليله قولهم: {لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]. وقيل: إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر. ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. {يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في {يَحْشُرُهُمْ}. ويجوز أن يكون منقطعا، فكأنه قال فهم يتعارفون. قال الكلبي: يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم، وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر، وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10]. وقيل: يبقى تعارف التوبيخ، وهو الصحيح لقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} إلى قوله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 33- 31] وقوله: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها} [الأعراف: 83] الآية، وقوله: {رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا} [الأحزاب: 67] الآية. فأما قوله: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} وقوله: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم. وقيل: القيامة مواطن. وقيل: معنى {يَتَعارَفُونَ} يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم، كما قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} [الصافات: 27] وهذا حسن. وقال الضحاك: ذلك تعارف تعاطف المؤمنين، والكافرون لا تعاطف عليهم، كما قال: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ}. والأول أظهر، والله أعلم. قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ} أي بالعرض على الله. ثم قيل: يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي خسروا ثواب الجنة. وقيل: خسروا في حال لقاء الله، لان الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم، يقولون هذا. {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} بريد في علم الله. .تفسير الآية رقم (46): قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} شرط. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي من إظهار دينك في حياتك. وقال المفسرون: كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} عطف على {نُرِيَنَّكَ} أي نتوفينك قبل ذلك. {فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ} جواب {إِمَّا}. والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد. {عَلى ما يَفْعَلُونَ} من محاربتك وتكذيبك. ولو قيل: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} بمعنى هناك، جاز. .تفسير الآية رقم (47): قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} يكون المعنى: ولكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم، مثل. {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]. وقال ابن عباس: تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم، فيؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتكم الرسالة، فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب. دليله قوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم، فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذب. دليله قوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الاسراء: 15]. والقسط: العدل. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة. .تفسير الآية رقم (48): يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب، أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد. وقيل: هو عام في كل أمة كذبت رسولها. .تفسير الآية رقم (49): قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً} لما استعجلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعذاب قال الله له: قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، أي ليس ذلك لي ولا لغيري. {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه. {إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} أي وقت انقضاء أجلهم. {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون.
|